هذا متن الكبرى المسمى بـ (عقيدة أهل التوحيد) للإمام المجتهد العالم العلامة المحقق العارف بالله ، سيدي أبي عبدالله محمد بن يوسف السنوسي الحسني التلمساني ، رحمه الله ، ونفع بعلومه المسلمين آمين آ مين آمين .
قال السيد الشريف الشيخ الفقية الامام المجتهد العالم العلامة ، وحيد دهره وفريد عصره ، القدوة المحقق ، الولي العارف بالله ، سيدي أبو عبدالله ، محمد بن يوسف السنوسي الحسني التلمساني ، القطب الرباني ، رحمه الله ووالديه ونفعنا بعلومه آمين .
وبعد ،
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ، خاتم النبيين وإمام المرسلين ، ورضي الله تعالى عن أصحاب رسول الله أجمعين ، وعن التابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اعلم - شرح الله صدري وصدرك ، ويسر لنيل الكمال في الدارين أمري وأمرك – أن أول ما يجب قبل كل شيء على من بلغ ، أن يُعمِل فكرَه فيما يوصله إلى العلم بمعبوده من البراهين القاطعة ، والأدلة الساطعة ، إلا أن يكون حَصَل له العلمُ بذلك قبل البلوغ ، فليشتغل بعده بالأهم فالأهم .
ولا يرضى لعقائده حرفة التقليد ، فإنها في الآخرة غير مُخَلِّصة عند كثير من المحققين ، ويُخشى على صاحبها الشكُّ عند عروض الشبهات ، ونزول الدواهي المعضلات كالقبر ونحوه ، مما يفتقر فيه إلى قول ثابت بالأدلة ، وقوة يقين ، وعقد راسخ لا يتزلزل ، لكونه نتج عن قواطع البراهين ، ولا يغتر المقلد ويستدل على أنه على الحق بقوة تصميمه ، وكثرة تعبده ، للنقض عليه بتصميم اليهود والنصارى وعَبَدَة الأوثان ، ومن في معناهم ، تقليدا لأحبارهم وآبائهم الضالين المضلين .
فصل
وإذا عرفت هذا أيها المقلد ، الناظرُ لنفسه بعين الرحمة ، فأقرب شيء يخرجك عن التقليد ، بعون الله تعالى ، أن تنظر إلى أقرب الأشياء إليك ، وذلك نفسُك قال الله تعالى : (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) فتعلم على الضرورة أنك لم تكن ثم كنت ، فتعلم أن لك موجدا أوجدك ، لاستحالة أن توجد نفسك ، وإلا لأمكن أن توجِد ما هو أهون عليك من نفسك ، وهو ذات غيرك ، لمساواته لك في الإمكان .
وإنما قلنا : هو أهون عليك ، لما في إيجادك نفسَك مِن زيادة التهافت ، والجمعِ بين متنافيين ، وهو تقدُّمُك على نفسك ، وتَأَخُّرُك عنها ، لوجوب سبقِ الفاعل على فِعْله ، فإذا كانت ذاته نفسُ فِعْلِه ، لزم المحذورُ المذكور .
فإذا قلتَ : كيف أعلم ضرورة سبقِ عدمي ، وقد كنتُ ماء في صلب أبي ، وكذا أبي في صلب أبيه ، وهلم جرا ؟ .
غاية الأمر أني أعلم ضرورة تحولي من صورة إلى صورة ، لا من عدم الى وجود كما ذكرت ؟ .
فالجواب : أن ذاتك الآن أكبر من النطفة التي نشأت عنها قطعا , فتعلم على الضرورة أن ما زاد كان معدوما ثم كان ، وإذا كان معدوما ثم وُجِد فلا بد له من مُوجِد ، فقد تمَّ لك البرهان القاطع - بهذا الزائدِ مِن ذاتك - على وجود الصانع دون حاجة إلى غيره .
ثم إذا نظرت إلى هذا الزائد من ذاتك ، وجدَّتَه جرما يَعْمُرُ فراغا ، يجوز أن يكون على ما هو عليه من المقدار المخصوص ، والصفة المخصوصة ، وأن يكون على خلافهما ، فتعلم قطعا أن لصانعك اختيارا في تخصيص ذاتك ببعض ما جاز عليها .
فيخرج لك من هذا : البرهانُ القاطعُ على أن النطفة التي نشَأْتَ عنها قطعا ، يستحيل أن تكون هي الموجدةَ لذاتك ، لعدم إمكان الاختيار لها حتى تخصص ذاتَك ببعض ما جاز عليها .
وأيضا : لا طبع لها في وجود ذاتك ، وإلا لكنت على شكل الكرة ، لاستواء أجزاء النطفة ، ولا في نموها ، وإلا لكنت تنمو أبدا .
ومن هنا أيضا تعلم أن تلك النطفة ، وسائرَ العالم ، لم يكن ثم كان ، إذ كله مثلك ، جرم يعمر فراغا ، يمكن وجوده وعدمه ، واتصافه بما هو عليه من المقادير والصفات المخصوصة وبغيرها ، فيحتاج كما احتجتَ إلى مخصص يخصصه بما هو عليه ، لوجوب استواء المثلين في كل ما يجب ويجوز ويستحيل .
وقد وجب لذاتك سَبْقُ العدم ، فكذلك يجب لسائر العالم المماثل لك ، إذ لو جاز أن يكون بعض العالم قديما ، والقدم لا يكون إلا واجبا للقديم ، كما يأتي ، للزم أن يختص أحد المثلين عن مثله بصفة واجبة وهو محال ، لِما يلزم من اجتماع متنافيين ، وهو أن يكون مِثْلا غير مثل .
فخرج لك بالنظر في ذاتك ، وانعقاد التماثل بينك وبين سائر الممكنات ، البرهانُ القاطع على حدوث العالم كله ، علوه وسفله ، عرشه وكرسيه ، أصله وفرعه ، وأن جميعَه عاجز عن إيجاد نفسه ، وعن إيجاد غيره ، كعجزك ، وأن الجميع مفتقر إلى فاعل مختار ، كافتقارك ، ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) .
وأيضا لو نظرتَ إلى تغيُّر صفات العالم ، قَبولا وحُصولا ، لَدَلَّكَ ذلك على حدوثها ، لِما يأتي من استحالة تغير القديم ، ودَلَّكَ حدوثُها على حدوث موصوفِها ، لاستحالة عُرُوِّهِ عنها .
وتقديرها حوادث لا أول لها ، يؤدي إلى فراغ ما لا نهاية له عددا ، قبل ما وجد منها الآن ، لكن فراغ العدد يستلزم انتهاء طرفيه ، ففراغ ما لا نهاية له من عدد الحوادث مُحال ، فما توقف عليه الآن من وجود الحوادث ، يجب أن يكون محالا ، فيلزم أن تكون عدما ، مع تحقق وجودها .
وأيضا يلزم على وجود حوادث لا أول لها ، أن يقارن الوجود الأزلي عدمه ، وأن يستحيل عند تطبيق ما فرغ منها بدون زيادة على نفسه ، مع زيادة ما عُلِم بين العددين من وجوب المساواة أو نقيضها ، وأن يصح في كل حادث ثبوت حكم بفراغ ما لا نهاية له قبله ، وهكذا لا إلى أول في الأحكام ، ومِن لازِمِها سبقُ محكوم عليه بالفراغ ، فيلزم أن يسبق أزلي أزليا ، وإن أجيب بالنهاية في الإحكام ، لزم أن ما يتناهى لا يتناهى بزيادة واحد .
فصل : ( في وجوب القدم له تعالى )
ثم تقول : يجب أن يكون هذا الصانع لذاتك ولسائر العالم قديما ، أي غير مسبوق بعدم ، وإلا افتقر إلى محدث ، وذلك يؤدى إلى التسلسل ، إن كان محدِثُه ليس أثرا له ، أو إلى الدور إن كان ، والتسلسل والدور محالان ، لما في الأول من فراغ ما لا نهاية له بالعدد ، وفي الثاني من كون الشيء الواحد سابقا على نفسه مسبوقا بها .
فصل : ( في وجوب البقاء له تعالى )
ثم تقول : ويجب أن يكون باقيا ، أي لا يلحق وجودَه عدم ، وإلا لكانت ذاته تقبلهما ، فيحتاج في ترجيح وجوده إلى مخصص ، فيكون حادثا ، كيف وقد مرَّ بالبرهان آنفا وجوبُ قِدَمه ، ومِن هنا تعلم أن كل ما ثبت قدمه استحال عدمه .
ومن هنا أيضا تعلم وجوبَ تَنَزُّهه تعالى أن يكون جرما ، أو قائما به ، أو محاذيا له ، أو في جهة له ، أو مرتسما في خياله ، لأن ذلك كله يوجب مماثلته للحوادث ، فيجب له ما وجب لها ، وذلك يقدح في وجوب قدمه وبقائه ، بل وفي كل وصف من أوصاف ألوهيته .
فصل : ( وجوب أن يكون تعالى قادرا ، مريدا ، عالما ، حيا ، وسميعا ، وبصيرا ، متكلما )
ويجب لهذا الصانع أن يكون قادرا ، وإلا لَمَا أوجدك ، ومريدا ، وإلا لما اختَصَصْتَ بوجودٍ ، ولا مقدار ، ولا صفة ، ولا زمن ، بدلا عن نقائضها الجائزة ، فيلزم إما قدمُك ، أو استمرار عدمك .
ومن هنا تعلم استحالة كون الصانع طبيعة ، أو علة موجبة ، فإن أجيب عن التأخير في الطبيعة بالمانع ، أو فوات الشرط ، لزم عدمُ القديم ، أو التسلسل ، لنقل الكلام إلى ذلك المانع أو ذلك الشرط .
ثم يجب لصانعك أن يكون عالما ، وإلا لم تكن على ما أنت عليه من دقائق الصنع في اختصاص كل جزء منك بمنفعته الخاصة به ، وإمداده بما يحفظها عليه ، ونحو ذلك من المحاسن التي تعجز عقول البشر عن الإحاطة بأسرارها .
وحَيًّا ، وإلا لم يكن بهذه الأوصاف التي سبق وجوبها .
وسميعا ، بصيرا ، متكلما ، وإلا لاتصف - لكونه حيا – بأضدادها ، وأضدادُها آفات ونقص ، وهي عليه تعالى محال ، لاحتياجه حينئذ إلى من يكمله ، كيف وهو الغني بإطلاق ، المفتقر إليه كل ما سواه على العموم .
والتحقيق : الاعتمادُ في هذه الثلاثة على الدليل السمعي ، لأن ذاته تعالى لم تُعرف حتى يحكم في حقه بأنه يجب الاتصاف بأضدادها عند عدمها ، ولا يستغني بكونه عالما عن كونه سميعا بصيرا ، لِمَا نجده من الفرق الضروري بين علمنا بالشيء حال غيبته عنا ، وبين تعلق سمعنا وبصرنا به قبل .
( كونه مدركا )
وبهذا يثبت كونه مدرِكا ، عند مَن أثبته ، والتحقيق فيه الوقف ، لما تقدم من أن التحقيق في نفي النقائص ، الاعتمادُ على السمع ، وقد ورد في السمع والبصر والكلام ، ولم يرد في الإدراك ، وجزم بعضهم بنفيه لما رآه ملزوما للاتصال بالأجسام ، يعني : ويدخل في العلم ، والحق انه لا يستلزمه .
وبالجملة ، فمجموع ما فيه ثلاثة أقوال ، وأقربها الوقف كما قدمناه .
فصل ( في صفات المعاني )
ثم نقول : يتعين أن تكون هذه الأوصاف السبع تُلازِمها معانٍ تقوم بذاته تعالى ، فيكون قادرا بقدرة ، مريدا بإرادة ، ثم كذلك إلى آخرها ، إما لِتَحَقُّق تلازمها في الشاهد ، وإما لأنها لو ثبتت بالذات للزم أن تكون الذاتُ قدرةً إرادةً عِلمًا ، ثم كذلك ما بعدها ، لثبوت خاصية هذه الصفات لها .
وكون الشيء الواحد ذاتا ، معنىً محالٌ ، لأنه يلزم أن يضادَّ وأن لا يضادّ ، وأن يستلزم وجود محلٍّ ، وأن لا يستلزمه ، وذلك جَمْعٌ بين متنافيين ، وأن يكون الوجودان فأكثر وجودا واحدا ، على القول بنفي الأحوال ، وأصل ذلك المسألة المشهورة بـ ( سواد حلاوة ) .
فإن قالوا : ويلزم من وجودها تعليل الواجب ، وذلك مستلزم جوازَه .
قلنا : معنى التعليل هنا التلازم ، لا إفادةُ العلةِ معلولَها الثبوتَ .
قالوا : لو وجدت للزم تَكَثُّر القديم بها ، والإجماع أن القديم واحد .
قلنا : الموصوف لا يتكثر بصفاته ، بدليل أن الجوهر الفرد يتصف بصفات عديدة ، وهو واحد ، ومعنى الإجماع : أن الموصوف بصفات الألوهية واحد .
قالوا : لو وجدت للزم تعدد الآلهة ، لمشاركتها له في أخص وصفه ، وهو القدم ، وذلك يوجب الاشتراك في الأعم .
قلنا : ممنوع أن القدم صفة ثبوتية ، فضلا عن أن يكون صفة نفسية ، فضلا عن أن يكون أخص ، ثم الإيجاب للأخص في باب التماثل ممتنع ، لوجود الاشتراك في الأعم مع انتفائه في الأخص .
فصل : ( وجوب قدم صفات المعاني )
ثم نقول : يتعين أن تكون هذه الصفات كلها قديمة ، إذ لو كان شيء منها حادثا ، للزم أن لا يعرى عنه ، أو عن الاتصاف بضده الحادث ، ودليل حدوثه : طريان عدمه ، لما علمت من استحالة عدم القديم ، وما لا يتحقق ذاته بدون حادث يلزم حدوثه ضرورة ، وقد تقدم مِثْلُ ذلك في الاستدلال على حدوث العالم .
فإن قلت : إنما يتم ذلك إذا وجب أن القابل للشيء لا يخلو عنه ، أو عن ضده ، ولم لا يقال بجواز خلوه عنهما معا ، ثم يطرأ الاتصاف بهما ، فتتحقق ذاته دونهما ، فلا يلزم الحدوث ؟ .
فالجواب : أنه لو خلا عنهما مع قبوله لهما ، لجاز أن يخلو عن جميع ما يقبله من الصفات ، إذ القبول لا يختلف ، لأنه نفسي ، وإلا لزم الدور أو التسلسل ، وخلو القابل عن جميع ما يقبله من الصفات محال مطلقا في الحادث ، لوجوب اتصافه بالأكوان ضرورة ، وفي القديم ، لوجوب اتصافه بما دل عليه فعله ، كالعلم والقدرة والإرادة ، ولو فُرِضَت حادثةً للزم الدور أو التسلسل ، لتوقف إحداثها عليها .
وإذا عرفت وجوب قدم الصفات ، عرفت استحالةَ عدمها ، لِما قدَّمنا من بيان استحالة العدم على القديم ، فخرج لك بهذا استحالةُ التغير على القديم مطلقا ، أما في ذاته ، فلوجوب قدمه وبقائه لما مر ، وأما في صفاته فلما ذُكِر الآن ، ومن ثمَّ استحال على علمه أن يكون كسبيا ، أي يحصل له عن دليل ، أو ضروريا أي يقارنه ضرر ، كعلمنا بألمنا ، أو يطرأ عليه سهو أو غفلة ، واستحال على قدرته أن تحتاج إلى آلة ،أو معاونة ، وعلى إرادته أن تكون لغرض ، وعلى سمعه وبصره وكلامه وإدراكه - على القول به- أن تكون بجارحة أو مقابلة أو اتصال ، أو يكون كلامه حرفا أو صوتا ، أو يطرأ عليه سكوت ، لاستلزام جميع ذلك التغير والحدوث .
فصل
ثم نقول : يجب لهذه الصفات الوحدة ، فتكون قدرة واحدة ، وإرادة واحدة ، وعلما واحدا ، وكذا ما بعدها ، ويجب لها عدم النهاية في متعلقاتها ، فتتعلق القدرة والإرادة بكل ممكن ، والعلم والكلام بجميع أقسام الحكم العقلي ، وهي كل واجب ، وجائز ، ومستحيل ، والسمعُ والبصر والإدراك - على القول به - بكل موجود .
أما عدم النهاية في متعلقاتها ، فلأنها لو اختصت ببعض ما تصلح له ، لاستحال ما عُلِم جوازُه ، وافتقر إلى مخصص .
لا يقال : جاز التعلق بالجميع ، لكن منع منه مانع ، لأنا نقول : المانع إن ضادَّ الصفةَ ، لزم عدمها ، وعدمُ القديم محال ، وإلا فلا أثر له ، وأيضا فالتعلق نفسي ، يستحيل أن يمنع منه مانع ، والمانع في حقنا إنما منع وجود الصفة ، لتعددها بالنسبة إلينا ، بدليل صحة ذهولنا عن أحد المعلومين ، مع بقاء الآخر ، لا تعلقها .
وأما دليل وحدتها ، فلأنها لو تعددت بتعدد متعلقاتها ، للزم دخول ما لا نهاية له عددا في الوجود ، وهو محال ، وإلا لم يكن لبعض الأعداد ترجيح على بعض ، فتفتقر في تعيين بعضها إلى مخصص ، وذلك يوجب حدوثها ، وقد تبين وجوبُ قِدَمها هذا خلف ، فتعين اذاً وجوب وحدتها .
فان قلت مثلا : العلم في حقنا متعدد بحسب تعدد متعلقه ، وكذا غيره ، فلو قام العلم مثلا في حقه تعالى مقام علوم ، لجاز أن يقوم في حقه تعالى مقام القدرة والإرادة وسائر الصفات ، بجامع قيامه مقام صفاتٍ متغايرة ، بل ويلزم عليه أن يجوز قيام ذاته مقام الصفات كلها ، وذلك مما يأباه كل مسلم .
قلنا : الفرق أن التغاير في العلوم الحادثة ، لأجل التغاير في المتعلق مع الاتحاد في النوع ، فحيث فرضت الوحدة في العلم مثلا ، زال التغاير ، أما العلم والقدرة وسائر الصفات ، فمتغايرة في حقائقها جنسا ، فلو قام بعضها مقام بعض ، لزم قلب الحقائق ، ولزم ما تقدم في مسالة سواد حلاوة .
فصل ( الوحدانية )
ثم نقول : يجب لهذا الصانع أن يكون واحدا ، إذ لو كان معه ثان ، للزم عجزُهما ، أو عجزُ أحدهما عند الاختلاف ، وقهرُهما ، أو قهرُ أحدهما عند الاتفاق الواجب ، مع استحالة ما علم إمكانه لكل واحد باعتبار الانفراد ، ونفي وجوب الوجود لكل واحد منهما ، للاستغناء بكل منهما عن كل منهما ، فإن لم يجب اتفاقهما ، بل جاز اختلافهما ، لزم قبولهما العجز ، وعاد الأول .
ويلزم أيضا في الاتفاق مطلقا ، العجزُ ، لأن الفعل الواحد يستحيل عليه الانقسام ، فيتمانعان فيه ، فيلزم عجزهما ، أو عجز أحدهما ، كما في الاختلاف ، والعجزُ على الإله محال ، لأنه يضاد القدرة ، فإن كان قديما لزم استحالة عدمه ، فيجب أن لا يقدر هذا الإله على شيء دائما ، وإن كان حادثا فضده ، وهو القدرة القديمة ، فيستحيل عدمها ، فلا يوجد العجز ، وأيضا فيستحيل اتصاف الإله بصفة حادثة .
فإن قلت : فلم لا يجوز أن ينقسم العالَمُ بينهما قسمين ، فيكون أحدهما قادرا على أحد القسمين والآخر على الآخر فلا يلزم التمانع ؟ .
فالجواب : أنه قد تقرر قبلُ استحالةُ التناهي في مقدورات الإله ومراداته ، فيستحيل هذا الفرض الذي ذكر في السؤال ، وأيضا ، فالقسمان إن كانا معا في الجواهر ، لزم من تعلق القدرة ببعضها تعلقها بالجميع للتماثل ، فيلزم التمانع ، وإن كان أحد القسمين الجواهرَ ، والآخرُ الاعراضَ ، فذلك لا يعقل ، إذ القدرة على إيجاد الجواهر لا تعقل بدون القدرة على أعراضها ، وكذلك العكس ، للتلازم الذي بينهما ، ثم ذلك لا يدفع التمانع عندما يريد أحدهما أن يوجد الجواهر والآخر لا يريد أن يوجد عرضه .
ويصح إثبات هذ العقد – وهو الوحدانية - بالدليل السمعي ، ومَنَعَهُ بعض المحققين ، وهو رأيي ، لأن ثبوت الصانع لا يتحقق بدونها ، ولا أثر للدليل السمعي في ثبوت الصانع ، فكذا ما يتوقف عليه ، والله اعلم .
ويصح أن يُستدل على الوحدانية بما تقدم في وحدة الصفات ، فنقول : يلزم من تعدد الإله وجودُ ما لا نهاية له عددا ، إن تعدد بعدد الممكنات ، والاحتياج إلى مخصص إن وقف دون ذلك ، وكلاهما محال .
وبهذا الدليل بعينة - أعني دليل التمانع - يستدل على أنه جل وعلا هو الموجد لأفعال العباد ، ولا تأثير لقدرتهم الحادثة فيها ، بل هي موجودة مقارنة لها .
وإنما قلنا بوجود قدرة مقارنة ، لما نجده من الفرق الضروري بين حركة الاضطرار وحركة الاختيار .
( الكسب )
وعن تعلق هذه القدرة الحادثة بالمقدور في محلها ، مقارِنة له ، من غير تأثير عبر أهل السنة – رضي الله عنهم - بالكسب ، وهو متعلق التكليف الشرعي ، وأمارة على الثواب والعقاب ، فبطل إذن مذهب الجبرية ، وهو إنكار القدرة الحادثة ، لما فيه من جحد الضرورة ، وإبطال محل التكليف ، وأمارة الثواب والعقاب ، ومن هنا كان بدعةً .
ومذهبُ القدرية( ) ، وهو كون العبد يخترع أفعالَه ، على وفق مراده ، بالقدرة التي خلق الله له ، لما علمت من دليل الوحدانية ، واستحالة شريك مع الله تعالى أيًّا كان .
ويلزم فيه أيضا استحالة ما علم إمكانه ، إذ الأفعال يصح تعلق القدرة القديمة بها ، قبل تعلق القدرة الحادثة ، فلو منعتها القدرة الحادثة للزم ما ذكر ، وترجيح المرجوح .
قالوا : لم يزل يقدر عليها ، بأن يسلب القدرة الحادثة .
قلنا : فقد لزم إذن أن لا يقدر عليها مع وجود القدرة الحادثة ، وأيضا : من أصلكم وجوب مراعاة الصلاح والأصلح ، فلا يمكن سلبها عندكم بعد التكليف .
قالوا : فكيف يثيبه أو يعاقبه على غير فعله ؟
قلنا : يفعل ما يشاء ، لا يسأل عما يفعل ، والثواب والعقاب غير معلَّلين ، وإنما الأفعال أمارات شرعية عليهما ، يخلق الله تعالى منها في كل مكلف ما يدل شرعا على ما أراد به في عقباه ، فكلٌّ ميسر لما خلق له ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) نسأله سبحانه حسن الخاتمة بفضله .
قالوا: كيف يُمدح العبد أو يذم على غير ما فعل ؟ ويلزم أن تكون للعباد الحجة في الآخرة ، وقد قال الله تعالى : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) .
قلنا : من معنى ما قبله ، وأيضا : فيبطل بمسألة خلق الداعي والقدرة الحادثة وبعلمه القديم المحيط بكل شيء ، والحق أن العبد مجبور في قالب مختار ، فحسن فيه رَعْي الأمرين ، على تقدير تسليم أصل التحسين والتقبيح العقليين .
فصل ( التولد )
وإذا عرفت استحالة تأثير القدرة الحادثة في محلها ، بطل لذلك أيضا تأثيرها بواسطة مقدورها في غير محلها ، كرمي الحجر ، والضرب بالسيف ، ونحو ذلك مما يوجد عادة بواسطة حركة اليد مثلا ، وهو المسمى بالتولد عند القدرية ، مجوس هذه الامة ، مع ما فيه – على مذهبهم - من وجود أثر بين مؤثرين ، ووجود فعل من غير فاعل ، أو فاعل من غير إرادة ولا علم بالمفعول ، ونحو ذلك من الاستحالات المذكورة في المطولات .
واتفق الأكثر على عدم تولد الشبع والري ونحوهما عن الأكل والشرب وشبههما ، وذلك مما ينقض أيضا على القائلين بالتولد ، وبالله التوفيق .
وهذا الذي ذكر في أوصافه تعالى إلى هنا هو كله مما يجب في حقه تعالى ، وإذا علم ما يجب في حقه تعالى ، عُلم ما يستحيل ، وهو ضد ذلك الواجب .
فصل ( الرؤية )
ويجوز في حقه تعالى أن يرى بالأبصار على ما يليق به جل وعلا ، لا في جهة ، ولا في مقابلة ، لقوله تعالى : ( إلى ربها ناظرة ) ، ولسؤال موسى كليمه عليه السلام لها ، إذ لو كانت مستحيلة ما جَهِل أمرَها ، ولإجماع السلف الصالح ، قبل ظهور البدع ، على ابتهالهم إلى الله تعالى ، وطلبهم النظر إلى وجهه الكريم ، ولحديث : ( سترون ربكم ) ونحو ذلك مما ورد ، والظواهر إذا كثرت في شيء أفادت القطع به .
ولا يعارضها قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار ) لأن الإدراك أخصّ ، لإشعاره بالإحاطة ، ولا شك أنها منتفية مطلقا ، سلمنا أنه الرؤية ، لكن المراد في الدنيا ، أو هو من باب الكل لا الكلية .
ولا قوله عز وجل : ( لن تراني ) لأن المراد : في الدنيا ، إذ هو المسؤول لموسى عليه السلام ، والأصل في الجواب المطابقة ، ولهذا قال : ( لن تراني ) ولم يقل : لم أُرَ ، أو : لم تمكن رؤيتي ، وقد يستأنس لذلك بما تقرر في المنطق أن نقيض الوقتية يؤخذ فيه وقتها المعين .
وأما إثباتها بالدليل العقلي المشهور ، وهو أن مصحح الرؤية الوجود فضعيف ، لأن الوجود عينُ الموجود ، فلا يصح أن يكون علة .
ومعتمد من أحالها من المبتدعة أنها تستدعي الجهة والمقابلة ، وهو باطل لأن ذلك مفرَّع على انبعاث الأشعة ، فتتصل بالمرئي ، وذلك لو صح لوجب أن لا يرى الإنسان إلا قدر حدقته ، وهو باطل على الضرورة .
قالوا : إنما يكون ذلك لاتصال الشعاع بالهواء وهو مضيء ، فأعان على رؤية ما قابله كالبلور المُعِيْنِ بإشراقه على رؤية ما فيه .
قلنا : فيلزم أن لا يرى من الهواء إلا قدر حدقته ، وإيضا فنحن نرى والهواء مظلم ، وما نرى والهواء مشرق .
ومما ينقض عليهم ، عدم رؤية الجوهر الفرد ، مع اتصال الشعاع به ، ولا يناله من ذلك وحدَه ، إلا ما يناله مع غيره ، ورؤية الكبير مع البعد صغيرا ، مع اتصال الشعاع والمقابلة بجميعه .
قالوا : إنما ذلك لأن الشعاع نفذ من زاوية حادة لمثلث قاعدته المرئي ، فقام خطا مستقيما بوسط القاعدة على زوايا قائمة ، ومعلوم أنه أصغر مما يقوم عليها من سائر الخطوط ، فزيادة ذلك البعد لغيره منعت من رؤية طرفي المرئي .
قلنا : فيلزم إذا انتقل المرئي إلى مقدار تلك الزيادة من البعد أن لا يرى والمشاهدة تكذبه .
ومما ينقض عليهم رؤية الأكوان ، مع أن الأشعة لم تتصل بها .
قالوا: المرئي ما اتصلت به ، أو قام بما اتصلت به .
قلنا : فيلزم أن تُرى الطعوم والروائح ، لقيامها بما اتصلت به .
قالوا: إنما ذلك فيما يقبل الرؤية .
قلنا : فها هو البعيد يرى دون لونه .
ومما ينقض عليهم ، رؤية قرص الشمس مع عدم رؤية ما دونها من الطير إذا علا في الجو ، ورؤية النار على البعد دون ما دونها ، وأيضا الانبعاث إنما يكون عن اعتماد إلى جهة ، والسبر يبطله .
ثم لزوم المقابلة يبطل رؤية الإنسان نفسَه في المرآة والماء .
قالوا : لم تتثبت الأشعة فيهما لعدم التضريس ، فانعكست إلى الرائي .
قلنا : فيلزم أن لا يرى المرآة والماء ، لعدم قاعدة الأشعة فيهما .
قالوا : إنما يرى صورة منطبعة لا نفسه فيهما .
قلنا : فيلزم أن لا تبعد ببعده .
ومما يلزم على اشتراط المقابلة أن لا يرى الرائي إلا قدر ذاته ، إذ لا يقابل أكبر منها .
قالوا : الشعاع أعان على ذلك .
قلنا : قد تقدم جوابه .
ولو سلم ذلك كله ، فرؤية الله تعالى لكل موجود ، ولا بنية ، ولا شعاع ، وليس في جهة ، ولا مقابلة ، يهدم ما أصلوه .
وأيضا : فما ثبت من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الجنة من موضعه ، مع غاية البعد ، وكثافة الحجب ، يمنع ما تخيلوه من الأشعة والموانع .
وإذا تقرر هذا ، فالبصر عند أهل الحق عبارة عن معنىً يقوم بمحلٍّ مّا ، يتعلق المرئيات ، ويتعدد في حقنا بتعددها ، وما لم يُرَ من الموجودات فلموانع قامت بالمحل على حسبها ، وهل قام في العمى مانع واحد يضاد جميع الادراكات ؟ أو موانع تعددت بتعدد ما فاتت رؤيته من الموجودات ؟ فيه تردد .
فصل ( لا يجب على الله تعالى شيء )
ومن الجائزات في حقه تعالى ، خلقُ العباد ، وخلق أعمالهم ، وخلق الثواب والعقاب عليها ، لا يجب عليه شيء من ذلك ، ولا مراعاة صلاح ولا أصلح ، وإلا لوجب أن لا يكون تكليفٌ ، ولا محنة دنيوية ، ولا أخروية .
والأفعال كلها ، خيرها وشرها ، نفعها وضرها ، مستوية في الدلالة على باهر قدرته جل وعز ، وسعة علمه ، ونفوذ إرادته ، لا يتطرق لذاته العلية من ذلك كمال ولا نقص ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما كان عليه ، فأكرم سبحانه من شاء بما لا يكيف من أنواع النعيم بمجرد فضله ، لا لميلٍ إليه ، أو قضاء حق وجب له عليه ، وعَدَلَ فيمن شاء بما لا يطاق وصفه من أصناف الجحيم ، لا لإشفاء غيط ، ولا لضرر ناله من قِبَله .
وكلا النوعين دال على سعة ملكه ، وانقياد جميع الممكنات لإرادته ، وعدم تعاصيها على باهر قدرته ، كل منها واقع على ما ينبغي من جريه على وفق علمه وإرادته ، من غير أن يتجدد له بذلك كمال أو نقص ، لا حالا ، ولا مآلا ، فالوجوب إذن والظلم عليه محالان ، إذ الوجوب يستدعي تعاصي بعض الممكنات ، والظلم يستدعي التصرف على خلاف ما ينبغي .
ومن هنا تعلم استحالة أن يكون فعله تعالى لغرض ، لأنه لو كان له غرض في الفعل لأوجبه عليه ، وإلا لم يكن له علة ، فيكون مقهورا ، كيف وربك يخلق ما يشاء ويختار ؟ .
وأيضا : فالغرض إما قديم ، فيلزم قِدَمُ الفعل ، وقد مر برهانُ حدوثه ، أو حادث ، فيفتقر إلى غرض ثم كذلك ، ويتسلسل فيؤدي إلى حوادث لا أول لها ، وقد مر برهان بطلانه .
وأيضا : فالغرض إما مصلحة تعود إليه ، أو إلى فعله ، فالأول محال ، لاستلزامه اتصاف ذاته العلية بالحوداث ، والثاني محال ، لعدم وجوب مراعاة الصلاح والأصلح ، ولأنه قادر على إيصال تلك المصلحة إلى العبد مثلا من غير واسطة ، ولأنه يلزم فيه تعليل الشيء بنفسه ، أو التسلسل ، لنقل الكلام الى تلك المصلحة نفسها .
قالوا : إذا لم يكن غرضٌ ، فالفعل سَفَه .
قلنا : السفهُ عُرفا ما فُعِل مع الجهل بالعواقب ، أو ترجيح اللذات الحاضرة ، حتى يفعل السفيه ما فيه ضرره ، أو حتفه ، وهو لا يشعر ، وأين هذا من فعل المتعالي عن تجدد كمالٍ أو نقصان ، الذي لا يعزب عن علمه شيء على الإطلاق ، من سر وإعلان ؟ .
فصل ( الحسن والقبح )
وإذا عرفت - بما ذكر - عدمَ رجحان بعض الأفعال على بعض ، بالنسبة إليه تعالى ، عرفت جهالة من تسوَّر على الغيب ، ورأى أن العقل يتوصل وحده دون شرع ، إلى إدراك الحسن والقبيح عنده جل وعلا ، على أنه لو سلم لهم ذلك جدلا ، لم يجزِم العقلُ بشيء من ذلك ، لتعارض أوجهٍ من النظر في ذلك متضادة ، فإنا لم نعرف وجوب الايمان ، ولا تحريمَ الكفران ، إلا بعد مجيء الشرع .
فصل ( النبوات )
ومن الجائزات ، ويجب الإيمان به ، بعثُ الرسل إلى العباد ليبلغوهم أمر الله سبحانه ونهيه وإباحته ، وما يتعلق بذلك من خطاب الوضع ، لما عرفت أن الفعل لا يدرك دون شرع ، طاعة ولا معصية ولا ما بينهما .
وتفضل سبحانه بتأييدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم ، وهي فعل الله سبحانه الخارق للعادة ، المقارن لدعوى الرسالة ، متحدى به قبل وقوعه ، غير مكذب ، يعجز من يبغي معارضته عن الإتيان بمثله .
فاحترز بالأول من القديم ، فليس فعلا لله تعالى ، فلا يكون معجزة ، ودخل فيه الفعل الذي تعلقت القدرة الحادثة به ، كتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، فهو معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون غيره ، إذ غيره إذا تلاه ، إنما يحكيه ، وليس هو الآخذ له عن الملَك ، ودخل فيه ما لا تتعلق به القدرة الحادثة ، كإحياء الموتى ، وتكثير الطعام ، وانقياد الحجر والشجر ، وغير ذلك .
وعيّن بعض أصحابنا في المعجزة أن تكون من النوع الثاني لا الأول ، فتكون معجزة القرآن على هذا في نظمه المخصوص ، واطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك دون سائر الناس ، وكلا الأمرين ليس هو من فعله ، ولا كسبه ، وهذا الثاني أظهر ، والله أعلم .
فإن قلت : قد يتحدى النبي بعدم الفعل ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( قد عصمني ربي ) ، وكما قال نوح عليه السلام : ( فكيدوني جميعا ) وقال : ( ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) فقد وقع التحدي بعدم الفعل ، كالضرب والقتل .
فالجواب : أن إعلامه وإخباره بذلك على وفق ما ظهر ، هو المعجزة ، وهو فعل الله خلقه له .
ومنهم من قَيد هذا الاعتراض ، فزاد لإدخال ما ورد بعد قوله في شروط المعجزة : وهو فعل لله تعالى ، فقال : أو ما يقوم مقامه .
واحترز بقوله : ( خارق للعادة ) من المعتاد ، فإنه يستوي فيه الصادق والكاذب ، ومن المعتاد : السحر ونحوه ، وإن كان سببه العادي نادرا ، خلافا لمن جعل السحر خارقا ، لكن لسبب خاص به ، ومن المعتاد أيضا ما يوجد في بعض الأجسام من الخواص ، كجذب الحديد بحجر المغناطيس .
وبقوله : ( مقارنا لدعوى الرسالة ) مما وقع بدون دعوى ، أو بدعوى غير دعوى الرسالة ، كدعوى الولاية .
وبقوله : ( متحدى به قبل وقوعه ) أي يقول : آيةُ صدقي كذا ، مما وقع بدون تحديه ، كالإرهاص ونحوه ، أو تحدى به لكن بعد وجوده .
وهل يجوز تأخير المعجزة عن موته ؟ قولان للأشعري ، وقال بالثاني أبو بكر الباقلاني ، وهو الظاهر ، فإن حفظ ما نص عليه من أحكام شرعه في حياته لا باعث على تلقيه منه .
وبقوله : ( غير مكذب ) مما إذا قال : آية صدقي أن يُنْطِق اللهُ يدي ، فنطقت بتكذيبه ، وفي تكذيب الميت المتحدي بإحيائه ، قولان للقاضي وإمام الحرمين ، واختار بعض المتاخرين عدمَ القدح في تكذيب اليد وشبهها ، لعدم التحدي بتصديقها .
وهل دلالة المعجزة على صدق الرسل دلالة عقلية ، أو وضعية ، أو عادية بحسب القرائن ؟ اقوال .
أما على الأولين فيستحيل صدورها على يد الكاذب ، لما يلزم على الأول من نقض الدليل العقلي ، وعلى الثاني من الخُلْف في خبره جل وعلا ، إذ تصديق الكاذب كذب ، والكذب عليه جل وعلا محال ، لأن خبره على وفق علمه ، فيكون صدقا ، فلو انتفى لانتفى العلم ملزومه ، وهو محال لما عرفت من وجوبه .
فإن قلت : قد وجدنا العالِمَ منّا بالشيء يخبر عنه بالكذب ؟
قلنا : كلامنا في الخبر النفسي ، لا في الألفاظ ، لاستحالة اتصاف الباري تعالى بها ، والعالم منا بالشيء يستحيل أن يخبر الجزء من قلبه ، الذي قام به العلم ، بخبر كذب على غير وفق علمه ، غايته أن يجد في نفسه تقديرَ الكذب لا الكذب .
وأيضا : لو اتصف الباري تعالى بالكذب ، ولا تكون صفته إلا قديمة ، لاستحال اتصافه بالصدق ، مع صحة اتصافه به ، لأجل وجوب العلم له تعالى ، ففيه استحالة ما علمت صحته .
وأما إن قلنا : إن دلالة المعجزة عادية بحسب القرائن ، فحيث حصل العلم الضروري عنها بصدق الآتي بها ، فإنه يستحيل أن يكون كاذبا ، وإلا لانقلب العلم الضروري جهلا ، ولم يُجْرِ سبحانه وتعالى عادَته من أول الدنيا إلى الآن إلا بعدم تمكين الكاذب من المعجزات ، وإذا خيل بسحر ونحوه ، أظهر الله فضيحته عن قرب ، فلله الحمد على معاملته في ذلك ونحوه ، بمحض الفضل والكرم .
ويجوز أن تظهر المعجزة على يد الكاذب لو انخرقت العادة ، ولا يحصل حينئذ بها عِلمُ صدقِهِ ، وإلا لكان الجهل علما ، وتجويز خرق العادة عند حصول العلم بالصدق في حق المُحِقّ لا يقدح في العلم ، إذ لا يلزم من جواز الشيء وقوعه ، ألا ترى أنا نجوِّز استمرارَ عدمِ العالم ، مع علمنا ضرورةً بوجوده ، إذ معنى الجواز أنه لو قدر واقعا لم يلزم منه محال لذاته ، لا أنه محتمل الوقوع .
فصل ( عصمة الأنبياء )
وإذا علم صدق الرسل ، عليهم الصلاة والسلام ، لدلالة المعجزة ، وجب تصديقهم في كل ما أتوا به عن الله تعالى ، ويستحيل عليهم الكذب عقلا ، والمعاصي شرعا ، لأنا مأمورون بالاقتداء بهم ، فلو جازت عليهم المعصية ، لكنا مأمورين بها ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ) وبهذا تعرف عدمَ وقوع المكروه منهم ، بل والمباح على الوجه الذي يقع من غيرهم ، وبالله تعالى التوفيق .
فصل ( إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم )
ونبينا ومولانا محمد ، صلى الله عليه وسلم ، قد علم ضرورةً ادعاؤه الرسالة ، وتحدى بمعجزات لا يحاط بها ، وأفضلها القرآن العظيم ، الذي لم تزل تقرع أسماعَ البلغاءِ بتضليل كل دين غير الإسلام آياتُه ، وتحرك لطلب المعارضة ، على سبيل التعجيز ، حميةَ اللسن المتوقدي الفطنة ، الأقوياء العارضة ، نظما ونثرًا ، الخائضين في كل فن من فنون البلاغة طولا وعرضا ، بحيث لا تغلب عن معارضتهم أمنع كلمة ، وإن لم يُعَرَّض فيها بعجزهم ، فكيف وهم يسمعون في تعجيزهم صريحَ قوله تعالى : ( فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) ثم تَنَزَّل معهم فقال : ( فأتوا بسورة من مثله ) ثم صرح بعجز الجميع ، جنِّهم وإنسهم ، مفترقين أو مجتمعين فقال : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ومع ذلك لم تتحرك أنَفَتُهُم ، وهم المجبولون عليها ، ومن عادتهم أنهم لا يتمالكون معها ضبطَ أنفسهم عند ورود أدنى معارض يقدح في مناصبهم ، وإن كان في ذلك حتفُ أنفهم ، فكيف بما هو من نوع البلاغة التي هي كلامهم ، وتدب فيهم دبيبا ، حتى إنهم في كل واد يهيمون .
لكن القوم أخرسهم ، أنهم أحسوا أن الأمر إلهي ، لا تمكن مقاومته ، إما لأنه ليس في طوقهم ، وهو الأصح ، أو للصرفة ، وهما قولان .
ومن لم يستح منهم ، وانتدب لمقاومة هذا الأمر الإلهي ، كمسيلمة ، افتضح وأتى بمَخْرَقَةٍ يتضاحك منها إلى قيام الساعة .
ولو أنهم نُقِل لهم القرآن نَقْلَ غيره من الكلام ، نقل آحاد ، لأمكن الاعتذار عنهم بعدم الوصول ، كلاّ ، بل امتلأت بِحَمَلَتِه وصُحُفه وإشادة أمره الأرضُ كلُّها ، سهلها وجبلها ، بدوها وحضرها ، برها وبحرها ، مؤمنها وكافرها ، جنها وإنسها ، وتطاولت أزمنته على تلك الصفة قريبا من تسعمائة سنة ، أفيستريب عاقل بعد هذا في كونه من عند الله جل وعلا ، صدق به نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ .
هذا ، مع ما فيه من الإخبار ، قبل الوقوع ، بالغيوب المطابِقة ، ومحاسن علوم الشريعة المشتملة على ما لا يقدِر البشر على ضبطه من المصالح الدنيوية والأخروية ، وتحرير الأدلة ، والرد على المخالفين بالبراهين القطعية ، وسرد قصص الماضين ، وتزكية النفس بمواعظ يغرق في أدنى بحارها جميعُ وعظ الواعظين ، هذا كله على يد نبي أمي ، لم يخط قطُّ كتابا ، ولا حصلت له مخالطة لذوي علم ما يمكن بها تحصيل أدنى شيء من ذلك ، عَلِمَ ذلك كله بالضرورة : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون ) .
ثم هذا إلى ما له من المعجزات التي لا تحصى ، ثم إلى ما جبلت عليه ذاتُه الكريمة من الكمالات التي كادت أن تُفْصِح ، بل أفصحت ، قبل مبعثه برسالته ، خلقا وخلقا ، ثم مع ذلك كله ، أكد الله تعالى صدقَه بذكره باسمه وبجميع وصفه في الكتب الماضية ، قال تعالى : ( الذين يتبعون النبي الرسول الأمي .. الآية ) وأطلق ألسنة الأحبار ، قريبا من مبعثه ، بجميع ذلك ، حتى أنه سبحانه بفضله مما أكد به زوال اللبس عن نبوته ، أنْ منع العربَ قبله من التسمي باسمه الخاص به ، إلا أناسا قليلين تسموا قريبا من مولده باسمه ، رجاء حصول النبوة لهم ، لما سمعوا من الأحبار ، ثم من عظيم فضل الله تعالى ، في إزالة اللبس ، أنه لم يطلق لسانَ أحد من أولئك الذين تسموا باسمه ، بدعوى النبوة .
فصل ( السمعيات )
وإذا وفقت لعلم هذا كله ، حصل لك العلمُ ضرورة بصدق رسالة نبينا ومولانا محمد ، صلى الله عليه وسلم ، فوجب الإيمان به في كل ما جاء به عن الله سبحانه ، جملة وتفصيلا ، كالحشر والنشر لعين هذا البدن ، لا لمثله إجماعا ، وفي كونه عن تفريقٍ أو عدمٍ محض ، تردد ، باعتبار ما دل عليه الشرع ، أما الجواز العقلي فيهما فاتفاق .
وفي إعادة الأعراض بأعيانها طريقتان ، الأولى : تعاد بأعيانها باتفاق ، والثانية : قولان ، والصحيح منهما إعادتها بأعيانها ، وفي إعادة عين الوقت قولان ، وكالصراط وكالميزان ، وفي كون الموزون صحف الأعمال ، أو أجساما تخلق أمثلة لها ، تردد ، والجنة والنار وعذاب القبر وسؤاله .
ولا يقدح فيه مشاهدتُنا للميت على نحو ما وضع في قبره ، لأن في الموت وما بعده خوارق عادات أخبر بها الشرع ، وهي جائزة ، فوجب الإيمان بها على ظاهرها .
وأما ما استحال ظاهره نحو : ( على العرش استوى ) فإنا نصرفه عن ظاهره اتفاقا ، ثم إن كان له تأويل واحد ، تعين الحملُ عليه ، وإلا وجب التفويض مع التنزيه ، وهو مذهب الأقدمين ، خلافا لإمام الحرمين.
فصل ( الشفاعة والحوض وتطاير الصحف )
ومما جاء به ، صلى الله عليه وسلم ، ويجب الإيمان به ، نفوذ الوعيد في طائفة من عصاة أمته ، ثم يخرجون بشفاعته ، صلى الله عليه وسلم .
والحوضُ ، وهل هو قبل الصراط ، أو بعده ، أو هما حوضان أحدهما قبل الصراط والآخر بعده ، وهو الصحيح ، أقوال .
وتطاير الصحف ، إلى غير ذلك مما علم من الدين ضرورةً ، وعلمه مفصل في الكتاب والسنة ، وكتب علماء الأمة .
واعلم أن أصول الأحكام التي منها يتلقى : الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة ، وقياس الأئمة ، واتباع السلف الصالح ، واقتفاء آثارهم نجاةٌ لمن تمسك به .
وأفضل الناس بعد نبينا ومولانا محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أبو بكر ، ثم عمر ، ومختار مالك الوقفُ فيما بين عثمان وعلي ، رضي الله عنهما وعمن قبلهما ، والصحابة ، رضي الله عنهم ، كلهم أئمة عدول ، بأيهم اقتديتم اهتديتم ، نفعنا الله تعالى بحبهم ، وأماتنا على سنتهم ، وحشرنا في زمرتهم ، آمين يارب العالمين .
فهذه عقيدة أهل التوحيد ، المخرجةُ - بفضل الله - من ظلمات الجهل والتقليد ، المرغمة - بعون الله - أنفَ كل مبتدع عنيد ، نسأله سبحانه أن ينفع بها بفضله ، ويشرح بها صدر كل من يسعى في تحصيلها بِطَوْلِه ، وصلِّ اللهم على سيدنا ومولانا محمد ، عدد ما ذكرك وذكره الذاكرون ، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون ، ورضي الله تعالى عن أهله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
تمت العقيدة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه .
قال السيد الشريف الشيخ الفقية الامام المجتهد العالم العلامة ، وحيد دهره وفريد عصره ، القدوة المحقق ، الولي العارف بالله ، سيدي أبو عبدالله ، محمد بن يوسف السنوسي الحسني التلمساني ، القطب الرباني ، رحمه الله ووالديه ونفعنا بعلومه آمين .
وبعد ،
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ، خاتم النبيين وإمام المرسلين ، ورضي الله تعالى عن أصحاب رسول الله أجمعين ، وعن التابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اعلم - شرح الله صدري وصدرك ، ويسر لنيل الكمال في الدارين أمري وأمرك – أن أول ما يجب قبل كل شيء على من بلغ ، أن يُعمِل فكرَه فيما يوصله إلى العلم بمعبوده من البراهين القاطعة ، والأدلة الساطعة ، إلا أن يكون حَصَل له العلمُ بذلك قبل البلوغ ، فليشتغل بعده بالأهم فالأهم .
ولا يرضى لعقائده حرفة التقليد ، فإنها في الآخرة غير مُخَلِّصة عند كثير من المحققين ، ويُخشى على صاحبها الشكُّ عند عروض الشبهات ، ونزول الدواهي المعضلات كالقبر ونحوه ، مما يفتقر فيه إلى قول ثابت بالأدلة ، وقوة يقين ، وعقد راسخ لا يتزلزل ، لكونه نتج عن قواطع البراهين ، ولا يغتر المقلد ويستدل على أنه على الحق بقوة تصميمه ، وكثرة تعبده ، للنقض عليه بتصميم اليهود والنصارى وعَبَدَة الأوثان ، ومن في معناهم ، تقليدا لأحبارهم وآبائهم الضالين المضلين .
فصل
وإذا عرفت هذا أيها المقلد ، الناظرُ لنفسه بعين الرحمة ، فأقرب شيء يخرجك عن التقليد ، بعون الله تعالى ، أن تنظر إلى أقرب الأشياء إليك ، وذلك نفسُك قال الله تعالى : (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) فتعلم على الضرورة أنك لم تكن ثم كنت ، فتعلم أن لك موجدا أوجدك ، لاستحالة أن توجد نفسك ، وإلا لأمكن أن توجِد ما هو أهون عليك من نفسك ، وهو ذات غيرك ، لمساواته لك في الإمكان .
وإنما قلنا : هو أهون عليك ، لما في إيجادك نفسَك مِن زيادة التهافت ، والجمعِ بين متنافيين ، وهو تقدُّمُك على نفسك ، وتَأَخُّرُك عنها ، لوجوب سبقِ الفاعل على فِعْله ، فإذا كانت ذاته نفسُ فِعْلِه ، لزم المحذورُ المذكور .
فإذا قلتَ : كيف أعلم ضرورة سبقِ عدمي ، وقد كنتُ ماء في صلب أبي ، وكذا أبي في صلب أبيه ، وهلم جرا ؟ .
غاية الأمر أني أعلم ضرورة تحولي من صورة إلى صورة ، لا من عدم الى وجود كما ذكرت ؟ .
فالجواب : أن ذاتك الآن أكبر من النطفة التي نشأت عنها قطعا , فتعلم على الضرورة أن ما زاد كان معدوما ثم كان ، وإذا كان معدوما ثم وُجِد فلا بد له من مُوجِد ، فقد تمَّ لك البرهان القاطع - بهذا الزائدِ مِن ذاتك - على وجود الصانع دون حاجة إلى غيره .
ثم إذا نظرت إلى هذا الزائد من ذاتك ، وجدَّتَه جرما يَعْمُرُ فراغا ، يجوز أن يكون على ما هو عليه من المقدار المخصوص ، والصفة المخصوصة ، وأن يكون على خلافهما ، فتعلم قطعا أن لصانعك اختيارا في تخصيص ذاتك ببعض ما جاز عليها .
فيخرج لك من هذا : البرهانُ القاطعُ على أن النطفة التي نشَأْتَ عنها قطعا ، يستحيل أن تكون هي الموجدةَ لذاتك ، لعدم إمكان الاختيار لها حتى تخصص ذاتَك ببعض ما جاز عليها .
وأيضا : لا طبع لها في وجود ذاتك ، وإلا لكنت على شكل الكرة ، لاستواء أجزاء النطفة ، ولا في نموها ، وإلا لكنت تنمو أبدا .
ومن هنا أيضا تعلم أن تلك النطفة ، وسائرَ العالم ، لم يكن ثم كان ، إذ كله مثلك ، جرم يعمر فراغا ، يمكن وجوده وعدمه ، واتصافه بما هو عليه من المقادير والصفات المخصوصة وبغيرها ، فيحتاج كما احتجتَ إلى مخصص يخصصه بما هو عليه ، لوجوب استواء المثلين في كل ما يجب ويجوز ويستحيل .
وقد وجب لذاتك سَبْقُ العدم ، فكذلك يجب لسائر العالم المماثل لك ، إذ لو جاز أن يكون بعض العالم قديما ، والقدم لا يكون إلا واجبا للقديم ، كما يأتي ، للزم أن يختص أحد المثلين عن مثله بصفة واجبة وهو محال ، لِما يلزم من اجتماع متنافيين ، وهو أن يكون مِثْلا غير مثل .
فخرج لك بالنظر في ذاتك ، وانعقاد التماثل بينك وبين سائر الممكنات ، البرهانُ القاطع على حدوث العالم كله ، علوه وسفله ، عرشه وكرسيه ، أصله وفرعه ، وأن جميعَه عاجز عن إيجاد نفسه ، وعن إيجاد غيره ، كعجزك ، وأن الجميع مفتقر إلى فاعل مختار ، كافتقارك ، ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) .
وأيضا لو نظرتَ إلى تغيُّر صفات العالم ، قَبولا وحُصولا ، لَدَلَّكَ ذلك على حدوثها ، لِما يأتي من استحالة تغير القديم ، ودَلَّكَ حدوثُها على حدوث موصوفِها ، لاستحالة عُرُوِّهِ عنها .
وتقديرها حوادث لا أول لها ، يؤدي إلى فراغ ما لا نهاية له عددا ، قبل ما وجد منها الآن ، لكن فراغ العدد يستلزم انتهاء طرفيه ، ففراغ ما لا نهاية له من عدد الحوادث مُحال ، فما توقف عليه الآن من وجود الحوادث ، يجب أن يكون محالا ، فيلزم أن تكون عدما ، مع تحقق وجودها .
وأيضا يلزم على وجود حوادث لا أول لها ، أن يقارن الوجود الأزلي عدمه ، وأن يستحيل عند تطبيق ما فرغ منها بدون زيادة على نفسه ، مع زيادة ما عُلِم بين العددين من وجوب المساواة أو نقيضها ، وأن يصح في كل حادث ثبوت حكم بفراغ ما لا نهاية له قبله ، وهكذا لا إلى أول في الأحكام ، ومِن لازِمِها سبقُ محكوم عليه بالفراغ ، فيلزم أن يسبق أزلي أزليا ، وإن أجيب بالنهاية في الإحكام ، لزم أن ما يتناهى لا يتناهى بزيادة واحد .
فصل : ( في وجوب القدم له تعالى )
ثم تقول : يجب أن يكون هذا الصانع لذاتك ولسائر العالم قديما ، أي غير مسبوق بعدم ، وإلا افتقر إلى محدث ، وذلك يؤدى إلى التسلسل ، إن كان محدِثُه ليس أثرا له ، أو إلى الدور إن كان ، والتسلسل والدور محالان ، لما في الأول من فراغ ما لا نهاية له بالعدد ، وفي الثاني من كون الشيء الواحد سابقا على نفسه مسبوقا بها .
فصل : ( في وجوب البقاء له تعالى )
ثم تقول : ويجب أن يكون باقيا ، أي لا يلحق وجودَه عدم ، وإلا لكانت ذاته تقبلهما ، فيحتاج في ترجيح وجوده إلى مخصص ، فيكون حادثا ، كيف وقد مرَّ بالبرهان آنفا وجوبُ قِدَمه ، ومِن هنا تعلم أن كل ما ثبت قدمه استحال عدمه .
ومن هنا أيضا تعلم وجوبَ تَنَزُّهه تعالى أن يكون جرما ، أو قائما به ، أو محاذيا له ، أو في جهة له ، أو مرتسما في خياله ، لأن ذلك كله يوجب مماثلته للحوادث ، فيجب له ما وجب لها ، وذلك يقدح في وجوب قدمه وبقائه ، بل وفي كل وصف من أوصاف ألوهيته .
فصل : ( وجوب أن يكون تعالى قادرا ، مريدا ، عالما ، حيا ، وسميعا ، وبصيرا ، متكلما )
ويجب لهذا الصانع أن يكون قادرا ، وإلا لَمَا أوجدك ، ومريدا ، وإلا لما اختَصَصْتَ بوجودٍ ، ولا مقدار ، ولا صفة ، ولا زمن ، بدلا عن نقائضها الجائزة ، فيلزم إما قدمُك ، أو استمرار عدمك .
ومن هنا تعلم استحالة كون الصانع طبيعة ، أو علة موجبة ، فإن أجيب عن التأخير في الطبيعة بالمانع ، أو فوات الشرط ، لزم عدمُ القديم ، أو التسلسل ، لنقل الكلام إلى ذلك المانع أو ذلك الشرط .
ثم يجب لصانعك أن يكون عالما ، وإلا لم تكن على ما أنت عليه من دقائق الصنع في اختصاص كل جزء منك بمنفعته الخاصة به ، وإمداده بما يحفظها عليه ، ونحو ذلك من المحاسن التي تعجز عقول البشر عن الإحاطة بأسرارها .
وحَيًّا ، وإلا لم يكن بهذه الأوصاف التي سبق وجوبها .
وسميعا ، بصيرا ، متكلما ، وإلا لاتصف - لكونه حيا – بأضدادها ، وأضدادُها آفات ونقص ، وهي عليه تعالى محال ، لاحتياجه حينئذ إلى من يكمله ، كيف وهو الغني بإطلاق ، المفتقر إليه كل ما سواه على العموم .
والتحقيق : الاعتمادُ في هذه الثلاثة على الدليل السمعي ، لأن ذاته تعالى لم تُعرف حتى يحكم في حقه بأنه يجب الاتصاف بأضدادها عند عدمها ، ولا يستغني بكونه عالما عن كونه سميعا بصيرا ، لِمَا نجده من الفرق الضروري بين علمنا بالشيء حال غيبته عنا ، وبين تعلق سمعنا وبصرنا به قبل .
( كونه مدركا )
وبهذا يثبت كونه مدرِكا ، عند مَن أثبته ، والتحقيق فيه الوقف ، لما تقدم من أن التحقيق في نفي النقائص ، الاعتمادُ على السمع ، وقد ورد في السمع والبصر والكلام ، ولم يرد في الإدراك ، وجزم بعضهم بنفيه لما رآه ملزوما للاتصال بالأجسام ، يعني : ويدخل في العلم ، والحق انه لا يستلزمه .
وبالجملة ، فمجموع ما فيه ثلاثة أقوال ، وأقربها الوقف كما قدمناه .
فصل ( في صفات المعاني )
ثم نقول : يتعين أن تكون هذه الأوصاف السبع تُلازِمها معانٍ تقوم بذاته تعالى ، فيكون قادرا بقدرة ، مريدا بإرادة ، ثم كذلك إلى آخرها ، إما لِتَحَقُّق تلازمها في الشاهد ، وإما لأنها لو ثبتت بالذات للزم أن تكون الذاتُ قدرةً إرادةً عِلمًا ، ثم كذلك ما بعدها ، لثبوت خاصية هذه الصفات لها .
وكون الشيء الواحد ذاتا ، معنىً محالٌ ، لأنه يلزم أن يضادَّ وأن لا يضادّ ، وأن يستلزم وجود محلٍّ ، وأن لا يستلزمه ، وذلك جَمْعٌ بين متنافيين ، وأن يكون الوجودان فأكثر وجودا واحدا ، على القول بنفي الأحوال ، وأصل ذلك المسألة المشهورة بـ ( سواد حلاوة ) .
فإن قالوا : ويلزم من وجودها تعليل الواجب ، وذلك مستلزم جوازَه .
قلنا : معنى التعليل هنا التلازم ، لا إفادةُ العلةِ معلولَها الثبوتَ .
قالوا : لو وجدت للزم تَكَثُّر القديم بها ، والإجماع أن القديم واحد .
قلنا : الموصوف لا يتكثر بصفاته ، بدليل أن الجوهر الفرد يتصف بصفات عديدة ، وهو واحد ، ومعنى الإجماع : أن الموصوف بصفات الألوهية واحد .
قالوا : لو وجدت للزم تعدد الآلهة ، لمشاركتها له في أخص وصفه ، وهو القدم ، وذلك يوجب الاشتراك في الأعم .
قلنا : ممنوع أن القدم صفة ثبوتية ، فضلا عن أن يكون صفة نفسية ، فضلا عن أن يكون أخص ، ثم الإيجاب للأخص في باب التماثل ممتنع ، لوجود الاشتراك في الأعم مع انتفائه في الأخص .
فصل : ( وجوب قدم صفات المعاني )
ثم نقول : يتعين أن تكون هذه الصفات كلها قديمة ، إذ لو كان شيء منها حادثا ، للزم أن لا يعرى عنه ، أو عن الاتصاف بضده الحادث ، ودليل حدوثه : طريان عدمه ، لما علمت من استحالة عدم القديم ، وما لا يتحقق ذاته بدون حادث يلزم حدوثه ضرورة ، وقد تقدم مِثْلُ ذلك في الاستدلال على حدوث العالم .
فإن قلت : إنما يتم ذلك إذا وجب أن القابل للشيء لا يخلو عنه ، أو عن ضده ، ولم لا يقال بجواز خلوه عنهما معا ، ثم يطرأ الاتصاف بهما ، فتتحقق ذاته دونهما ، فلا يلزم الحدوث ؟ .
فالجواب : أنه لو خلا عنهما مع قبوله لهما ، لجاز أن يخلو عن جميع ما يقبله من الصفات ، إذ القبول لا يختلف ، لأنه نفسي ، وإلا لزم الدور أو التسلسل ، وخلو القابل عن جميع ما يقبله من الصفات محال مطلقا في الحادث ، لوجوب اتصافه بالأكوان ضرورة ، وفي القديم ، لوجوب اتصافه بما دل عليه فعله ، كالعلم والقدرة والإرادة ، ولو فُرِضَت حادثةً للزم الدور أو التسلسل ، لتوقف إحداثها عليها .
وإذا عرفت وجوب قدم الصفات ، عرفت استحالةَ عدمها ، لِما قدَّمنا من بيان استحالة العدم على القديم ، فخرج لك بهذا استحالةُ التغير على القديم مطلقا ، أما في ذاته ، فلوجوب قدمه وبقائه لما مر ، وأما في صفاته فلما ذُكِر الآن ، ومن ثمَّ استحال على علمه أن يكون كسبيا ، أي يحصل له عن دليل ، أو ضروريا أي يقارنه ضرر ، كعلمنا بألمنا ، أو يطرأ عليه سهو أو غفلة ، واستحال على قدرته أن تحتاج إلى آلة ،أو معاونة ، وعلى إرادته أن تكون لغرض ، وعلى سمعه وبصره وكلامه وإدراكه - على القول به- أن تكون بجارحة أو مقابلة أو اتصال ، أو يكون كلامه حرفا أو صوتا ، أو يطرأ عليه سكوت ، لاستلزام جميع ذلك التغير والحدوث .
فصل
ثم نقول : يجب لهذه الصفات الوحدة ، فتكون قدرة واحدة ، وإرادة واحدة ، وعلما واحدا ، وكذا ما بعدها ، ويجب لها عدم النهاية في متعلقاتها ، فتتعلق القدرة والإرادة بكل ممكن ، والعلم والكلام بجميع أقسام الحكم العقلي ، وهي كل واجب ، وجائز ، ومستحيل ، والسمعُ والبصر والإدراك - على القول به - بكل موجود .
أما عدم النهاية في متعلقاتها ، فلأنها لو اختصت ببعض ما تصلح له ، لاستحال ما عُلِم جوازُه ، وافتقر إلى مخصص .
لا يقال : جاز التعلق بالجميع ، لكن منع منه مانع ، لأنا نقول : المانع إن ضادَّ الصفةَ ، لزم عدمها ، وعدمُ القديم محال ، وإلا فلا أثر له ، وأيضا فالتعلق نفسي ، يستحيل أن يمنع منه مانع ، والمانع في حقنا إنما منع وجود الصفة ، لتعددها بالنسبة إلينا ، بدليل صحة ذهولنا عن أحد المعلومين ، مع بقاء الآخر ، لا تعلقها .
وأما دليل وحدتها ، فلأنها لو تعددت بتعدد متعلقاتها ، للزم دخول ما لا نهاية له عددا في الوجود ، وهو محال ، وإلا لم يكن لبعض الأعداد ترجيح على بعض ، فتفتقر في تعيين بعضها إلى مخصص ، وذلك يوجب حدوثها ، وقد تبين وجوبُ قِدَمها هذا خلف ، فتعين اذاً وجوب وحدتها .
فان قلت مثلا : العلم في حقنا متعدد بحسب تعدد متعلقه ، وكذا غيره ، فلو قام العلم مثلا في حقه تعالى مقام علوم ، لجاز أن يقوم في حقه تعالى مقام القدرة والإرادة وسائر الصفات ، بجامع قيامه مقام صفاتٍ متغايرة ، بل ويلزم عليه أن يجوز قيام ذاته مقام الصفات كلها ، وذلك مما يأباه كل مسلم .
قلنا : الفرق أن التغاير في العلوم الحادثة ، لأجل التغاير في المتعلق مع الاتحاد في النوع ، فحيث فرضت الوحدة في العلم مثلا ، زال التغاير ، أما العلم والقدرة وسائر الصفات ، فمتغايرة في حقائقها جنسا ، فلو قام بعضها مقام بعض ، لزم قلب الحقائق ، ولزم ما تقدم في مسالة سواد حلاوة .
فصل ( الوحدانية )
ثم نقول : يجب لهذا الصانع أن يكون واحدا ، إذ لو كان معه ثان ، للزم عجزُهما ، أو عجزُ أحدهما عند الاختلاف ، وقهرُهما ، أو قهرُ أحدهما عند الاتفاق الواجب ، مع استحالة ما علم إمكانه لكل واحد باعتبار الانفراد ، ونفي وجوب الوجود لكل واحد منهما ، للاستغناء بكل منهما عن كل منهما ، فإن لم يجب اتفاقهما ، بل جاز اختلافهما ، لزم قبولهما العجز ، وعاد الأول .
ويلزم أيضا في الاتفاق مطلقا ، العجزُ ، لأن الفعل الواحد يستحيل عليه الانقسام ، فيتمانعان فيه ، فيلزم عجزهما ، أو عجز أحدهما ، كما في الاختلاف ، والعجزُ على الإله محال ، لأنه يضاد القدرة ، فإن كان قديما لزم استحالة عدمه ، فيجب أن لا يقدر هذا الإله على شيء دائما ، وإن كان حادثا فضده ، وهو القدرة القديمة ، فيستحيل عدمها ، فلا يوجد العجز ، وأيضا فيستحيل اتصاف الإله بصفة حادثة .
فإن قلت : فلم لا يجوز أن ينقسم العالَمُ بينهما قسمين ، فيكون أحدهما قادرا على أحد القسمين والآخر على الآخر فلا يلزم التمانع ؟ .
فالجواب : أنه قد تقرر قبلُ استحالةُ التناهي في مقدورات الإله ومراداته ، فيستحيل هذا الفرض الذي ذكر في السؤال ، وأيضا ، فالقسمان إن كانا معا في الجواهر ، لزم من تعلق القدرة ببعضها تعلقها بالجميع للتماثل ، فيلزم التمانع ، وإن كان أحد القسمين الجواهرَ ، والآخرُ الاعراضَ ، فذلك لا يعقل ، إذ القدرة على إيجاد الجواهر لا تعقل بدون القدرة على أعراضها ، وكذلك العكس ، للتلازم الذي بينهما ، ثم ذلك لا يدفع التمانع عندما يريد أحدهما أن يوجد الجواهر والآخر لا يريد أن يوجد عرضه .
ويصح إثبات هذ العقد – وهو الوحدانية - بالدليل السمعي ، ومَنَعَهُ بعض المحققين ، وهو رأيي ، لأن ثبوت الصانع لا يتحقق بدونها ، ولا أثر للدليل السمعي في ثبوت الصانع ، فكذا ما يتوقف عليه ، والله اعلم .
ويصح أن يُستدل على الوحدانية بما تقدم في وحدة الصفات ، فنقول : يلزم من تعدد الإله وجودُ ما لا نهاية له عددا ، إن تعدد بعدد الممكنات ، والاحتياج إلى مخصص إن وقف دون ذلك ، وكلاهما محال .
وبهذا الدليل بعينة - أعني دليل التمانع - يستدل على أنه جل وعلا هو الموجد لأفعال العباد ، ولا تأثير لقدرتهم الحادثة فيها ، بل هي موجودة مقارنة لها .
وإنما قلنا بوجود قدرة مقارنة ، لما نجده من الفرق الضروري بين حركة الاضطرار وحركة الاختيار .
( الكسب )
وعن تعلق هذه القدرة الحادثة بالمقدور في محلها ، مقارِنة له ، من غير تأثير عبر أهل السنة – رضي الله عنهم - بالكسب ، وهو متعلق التكليف الشرعي ، وأمارة على الثواب والعقاب ، فبطل إذن مذهب الجبرية ، وهو إنكار القدرة الحادثة ، لما فيه من جحد الضرورة ، وإبطال محل التكليف ، وأمارة الثواب والعقاب ، ومن هنا كان بدعةً .
ومذهبُ القدرية( ) ، وهو كون العبد يخترع أفعالَه ، على وفق مراده ، بالقدرة التي خلق الله له ، لما علمت من دليل الوحدانية ، واستحالة شريك مع الله تعالى أيًّا كان .
ويلزم فيه أيضا استحالة ما علم إمكانه ، إذ الأفعال يصح تعلق القدرة القديمة بها ، قبل تعلق القدرة الحادثة ، فلو منعتها القدرة الحادثة للزم ما ذكر ، وترجيح المرجوح .
قالوا : لم يزل يقدر عليها ، بأن يسلب القدرة الحادثة .
قلنا : فقد لزم إذن أن لا يقدر عليها مع وجود القدرة الحادثة ، وأيضا : من أصلكم وجوب مراعاة الصلاح والأصلح ، فلا يمكن سلبها عندكم بعد التكليف .
قالوا : فكيف يثيبه أو يعاقبه على غير فعله ؟
قلنا : يفعل ما يشاء ، لا يسأل عما يفعل ، والثواب والعقاب غير معلَّلين ، وإنما الأفعال أمارات شرعية عليهما ، يخلق الله تعالى منها في كل مكلف ما يدل شرعا على ما أراد به في عقباه ، فكلٌّ ميسر لما خلق له ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) نسأله سبحانه حسن الخاتمة بفضله .
قالوا: كيف يُمدح العبد أو يذم على غير ما فعل ؟ ويلزم أن تكون للعباد الحجة في الآخرة ، وقد قال الله تعالى : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) .
قلنا : من معنى ما قبله ، وأيضا : فيبطل بمسألة خلق الداعي والقدرة الحادثة وبعلمه القديم المحيط بكل شيء ، والحق أن العبد مجبور في قالب مختار ، فحسن فيه رَعْي الأمرين ، على تقدير تسليم أصل التحسين والتقبيح العقليين .
فصل ( التولد )
وإذا عرفت استحالة تأثير القدرة الحادثة في محلها ، بطل لذلك أيضا تأثيرها بواسطة مقدورها في غير محلها ، كرمي الحجر ، والضرب بالسيف ، ونحو ذلك مما يوجد عادة بواسطة حركة اليد مثلا ، وهو المسمى بالتولد عند القدرية ، مجوس هذه الامة ، مع ما فيه – على مذهبهم - من وجود أثر بين مؤثرين ، ووجود فعل من غير فاعل ، أو فاعل من غير إرادة ولا علم بالمفعول ، ونحو ذلك من الاستحالات المذكورة في المطولات .
واتفق الأكثر على عدم تولد الشبع والري ونحوهما عن الأكل والشرب وشبههما ، وذلك مما ينقض أيضا على القائلين بالتولد ، وبالله التوفيق .
وهذا الذي ذكر في أوصافه تعالى إلى هنا هو كله مما يجب في حقه تعالى ، وإذا علم ما يجب في حقه تعالى ، عُلم ما يستحيل ، وهو ضد ذلك الواجب .
فصل ( الرؤية )
ويجوز في حقه تعالى أن يرى بالأبصار على ما يليق به جل وعلا ، لا في جهة ، ولا في مقابلة ، لقوله تعالى : ( إلى ربها ناظرة ) ، ولسؤال موسى كليمه عليه السلام لها ، إذ لو كانت مستحيلة ما جَهِل أمرَها ، ولإجماع السلف الصالح ، قبل ظهور البدع ، على ابتهالهم إلى الله تعالى ، وطلبهم النظر إلى وجهه الكريم ، ولحديث : ( سترون ربكم ) ونحو ذلك مما ورد ، والظواهر إذا كثرت في شيء أفادت القطع به .
ولا يعارضها قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار ) لأن الإدراك أخصّ ، لإشعاره بالإحاطة ، ولا شك أنها منتفية مطلقا ، سلمنا أنه الرؤية ، لكن المراد في الدنيا ، أو هو من باب الكل لا الكلية .
ولا قوله عز وجل : ( لن تراني ) لأن المراد : في الدنيا ، إذ هو المسؤول لموسى عليه السلام ، والأصل في الجواب المطابقة ، ولهذا قال : ( لن تراني ) ولم يقل : لم أُرَ ، أو : لم تمكن رؤيتي ، وقد يستأنس لذلك بما تقرر في المنطق أن نقيض الوقتية يؤخذ فيه وقتها المعين .
وأما إثباتها بالدليل العقلي المشهور ، وهو أن مصحح الرؤية الوجود فضعيف ، لأن الوجود عينُ الموجود ، فلا يصح أن يكون علة .
ومعتمد من أحالها من المبتدعة أنها تستدعي الجهة والمقابلة ، وهو باطل لأن ذلك مفرَّع على انبعاث الأشعة ، فتتصل بالمرئي ، وذلك لو صح لوجب أن لا يرى الإنسان إلا قدر حدقته ، وهو باطل على الضرورة .
قالوا : إنما يكون ذلك لاتصال الشعاع بالهواء وهو مضيء ، فأعان على رؤية ما قابله كالبلور المُعِيْنِ بإشراقه على رؤية ما فيه .
قلنا : فيلزم أن لا يرى من الهواء إلا قدر حدقته ، وإيضا فنحن نرى والهواء مظلم ، وما نرى والهواء مشرق .
ومما ينقض عليهم ، عدم رؤية الجوهر الفرد ، مع اتصال الشعاع به ، ولا يناله من ذلك وحدَه ، إلا ما يناله مع غيره ، ورؤية الكبير مع البعد صغيرا ، مع اتصال الشعاع والمقابلة بجميعه .
قالوا : إنما ذلك لأن الشعاع نفذ من زاوية حادة لمثلث قاعدته المرئي ، فقام خطا مستقيما بوسط القاعدة على زوايا قائمة ، ومعلوم أنه أصغر مما يقوم عليها من سائر الخطوط ، فزيادة ذلك البعد لغيره منعت من رؤية طرفي المرئي .
قلنا : فيلزم إذا انتقل المرئي إلى مقدار تلك الزيادة من البعد أن لا يرى والمشاهدة تكذبه .
ومما ينقض عليهم رؤية الأكوان ، مع أن الأشعة لم تتصل بها .
قالوا: المرئي ما اتصلت به ، أو قام بما اتصلت به .
قلنا : فيلزم أن تُرى الطعوم والروائح ، لقيامها بما اتصلت به .
قالوا: إنما ذلك فيما يقبل الرؤية .
قلنا : فها هو البعيد يرى دون لونه .
ومما ينقض عليهم ، رؤية قرص الشمس مع عدم رؤية ما دونها من الطير إذا علا في الجو ، ورؤية النار على البعد دون ما دونها ، وأيضا الانبعاث إنما يكون عن اعتماد إلى جهة ، والسبر يبطله .
ثم لزوم المقابلة يبطل رؤية الإنسان نفسَه في المرآة والماء .
قالوا : لم تتثبت الأشعة فيهما لعدم التضريس ، فانعكست إلى الرائي .
قلنا : فيلزم أن لا يرى المرآة والماء ، لعدم قاعدة الأشعة فيهما .
قالوا : إنما يرى صورة منطبعة لا نفسه فيهما .
قلنا : فيلزم أن لا تبعد ببعده .
ومما يلزم على اشتراط المقابلة أن لا يرى الرائي إلا قدر ذاته ، إذ لا يقابل أكبر منها .
قالوا : الشعاع أعان على ذلك .
قلنا : قد تقدم جوابه .
ولو سلم ذلك كله ، فرؤية الله تعالى لكل موجود ، ولا بنية ، ولا شعاع ، وليس في جهة ، ولا مقابلة ، يهدم ما أصلوه .
وأيضا : فما ثبت من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الجنة من موضعه ، مع غاية البعد ، وكثافة الحجب ، يمنع ما تخيلوه من الأشعة والموانع .
وإذا تقرر هذا ، فالبصر عند أهل الحق عبارة عن معنىً يقوم بمحلٍّ مّا ، يتعلق المرئيات ، ويتعدد في حقنا بتعددها ، وما لم يُرَ من الموجودات فلموانع قامت بالمحل على حسبها ، وهل قام في العمى مانع واحد يضاد جميع الادراكات ؟ أو موانع تعددت بتعدد ما فاتت رؤيته من الموجودات ؟ فيه تردد .
فصل ( لا يجب على الله تعالى شيء )
ومن الجائزات في حقه تعالى ، خلقُ العباد ، وخلق أعمالهم ، وخلق الثواب والعقاب عليها ، لا يجب عليه شيء من ذلك ، ولا مراعاة صلاح ولا أصلح ، وإلا لوجب أن لا يكون تكليفٌ ، ولا محنة دنيوية ، ولا أخروية .
والأفعال كلها ، خيرها وشرها ، نفعها وضرها ، مستوية في الدلالة على باهر قدرته جل وعز ، وسعة علمه ، ونفوذ إرادته ، لا يتطرق لذاته العلية من ذلك كمال ولا نقص ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما كان عليه ، فأكرم سبحانه من شاء بما لا يكيف من أنواع النعيم بمجرد فضله ، لا لميلٍ إليه ، أو قضاء حق وجب له عليه ، وعَدَلَ فيمن شاء بما لا يطاق وصفه من أصناف الجحيم ، لا لإشفاء غيط ، ولا لضرر ناله من قِبَله .
وكلا النوعين دال على سعة ملكه ، وانقياد جميع الممكنات لإرادته ، وعدم تعاصيها على باهر قدرته ، كل منها واقع على ما ينبغي من جريه على وفق علمه وإرادته ، من غير أن يتجدد له بذلك كمال أو نقص ، لا حالا ، ولا مآلا ، فالوجوب إذن والظلم عليه محالان ، إذ الوجوب يستدعي تعاصي بعض الممكنات ، والظلم يستدعي التصرف على خلاف ما ينبغي .
ومن هنا تعلم استحالة أن يكون فعله تعالى لغرض ، لأنه لو كان له غرض في الفعل لأوجبه عليه ، وإلا لم يكن له علة ، فيكون مقهورا ، كيف وربك يخلق ما يشاء ويختار ؟ .
وأيضا : فالغرض إما قديم ، فيلزم قِدَمُ الفعل ، وقد مر برهانُ حدوثه ، أو حادث ، فيفتقر إلى غرض ثم كذلك ، ويتسلسل فيؤدي إلى حوادث لا أول لها ، وقد مر برهان بطلانه .
وأيضا : فالغرض إما مصلحة تعود إليه ، أو إلى فعله ، فالأول محال ، لاستلزامه اتصاف ذاته العلية بالحوداث ، والثاني محال ، لعدم وجوب مراعاة الصلاح والأصلح ، ولأنه قادر على إيصال تلك المصلحة إلى العبد مثلا من غير واسطة ، ولأنه يلزم فيه تعليل الشيء بنفسه ، أو التسلسل ، لنقل الكلام الى تلك المصلحة نفسها .
قالوا : إذا لم يكن غرضٌ ، فالفعل سَفَه .
قلنا : السفهُ عُرفا ما فُعِل مع الجهل بالعواقب ، أو ترجيح اللذات الحاضرة ، حتى يفعل السفيه ما فيه ضرره ، أو حتفه ، وهو لا يشعر ، وأين هذا من فعل المتعالي عن تجدد كمالٍ أو نقصان ، الذي لا يعزب عن علمه شيء على الإطلاق ، من سر وإعلان ؟ .
فصل ( الحسن والقبح )
وإذا عرفت - بما ذكر - عدمَ رجحان بعض الأفعال على بعض ، بالنسبة إليه تعالى ، عرفت جهالة من تسوَّر على الغيب ، ورأى أن العقل يتوصل وحده دون شرع ، إلى إدراك الحسن والقبيح عنده جل وعلا ، على أنه لو سلم لهم ذلك جدلا ، لم يجزِم العقلُ بشيء من ذلك ، لتعارض أوجهٍ من النظر في ذلك متضادة ، فإنا لم نعرف وجوب الايمان ، ولا تحريمَ الكفران ، إلا بعد مجيء الشرع .
فصل ( النبوات )
ومن الجائزات ، ويجب الإيمان به ، بعثُ الرسل إلى العباد ليبلغوهم أمر الله سبحانه ونهيه وإباحته ، وما يتعلق بذلك من خطاب الوضع ، لما عرفت أن الفعل لا يدرك دون شرع ، طاعة ولا معصية ولا ما بينهما .
وتفضل سبحانه بتأييدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم ، وهي فعل الله سبحانه الخارق للعادة ، المقارن لدعوى الرسالة ، متحدى به قبل وقوعه ، غير مكذب ، يعجز من يبغي معارضته عن الإتيان بمثله .
فاحترز بالأول من القديم ، فليس فعلا لله تعالى ، فلا يكون معجزة ، ودخل فيه الفعل الذي تعلقت القدرة الحادثة به ، كتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، فهو معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون غيره ، إذ غيره إذا تلاه ، إنما يحكيه ، وليس هو الآخذ له عن الملَك ، ودخل فيه ما لا تتعلق به القدرة الحادثة ، كإحياء الموتى ، وتكثير الطعام ، وانقياد الحجر والشجر ، وغير ذلك .
وعيّن بعض أصحابنا في المعجزة أن تكون من النوع الثاني لا الأول ، فتكون معجزة القرآن على هذا في نظمه المخصوص ، واطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك دون سائر الناس ، وكلا الأمرين ليس هو من فعله ، ولا كسبه ، وهذا الثاني أظهر ، والله أعلم .
فإن قلت : قد يتحدى النبي بعدم الفعل ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( قد عصمني ربي ) ، وكما قال نوح عليه السلام : ( فكيدوني جميعا ) وقال : ( ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ) فقد وقع التحدي بعدم الفعل ، كالضرب والقتل .
فالجواب : أن إعلامه وإخباره بذلك على وفق ما ظهر ، هو المعجزة ، وهو فعل الله خلقه له .
ومنهم من قَيد هذا الاعتراض ، فزاد لإدخال ما ورد بعد قوله في شروط المعجزة : وهو فعل لله تعالى ، فقال : أو ما يقوم مقامه .
واحترز بقوله : ( خارق للعادة ) من المعتاد ، فإنه يستوي فيه الصادق والكاذب ، ومن المعتاد : السحر ونحوه ، وإن كان سببه العادي نادرا ، خلافا لمن جعل السحر خارقا ، لكن لسبب خاص به ، ومن المعتاد أيضا ما يوجد في بعض الأجسام من الخواص ، كجذب الحديد بحجر المغناطيس .
وبقوله : ( مقارنا لدعوى الرسالة ) مما وقع بدون دعوى ، أو بدعوى غير دعوى الرسالة ، كدعوى الولاية .
وبقوله : ( متحدى به قبل وقوعه ) أي يقول : آيةُ صدقي كذا ، مما وقع بدون تحديه ، كالإرهاص ونحوه ، أو تحدى به لكن بعد وجوده .
وهل يجوز تأخير المعجزة عن موته ؟ قولان للأشعري ، وقال بالثاني أبو بكر الباقلاني ، وهو الظاهر ، فإن حفظ ما نص عليه من أحكام شرعه في حياته لا باعث على تلقيه منه .
وبقوله : ( غير مكذب ) مما إذا قال : آية صدقي أن يُنْطِق اللهُ يدي ، فنطقت بتكذيبه ، وفي تكذيب الميت المتحدي بإحيائه ، قولان للقاضي وإمام الحرمين ، واختار بعض المتاخرين عدمَ القدح في تكذيب اليد وشبهها ، لعدم التحدي بتصديقها .
وهل دلالة المعجزة على صدق الرسل دلالة عقلية ، أو وضعية ، أو عادية بحسب القرائن ؟ اقوال .
أما على الأولين فيستحيل صدورها على يد الكاذب ، لما يلزم على الأول من نقض الدليل العقلي ، وعلى الثاني من الخُلْف في خبره جل وعلا ، إذ تصديق الكاذب كذب ، والكذب عليه جل وعلا محال ، لأن خبره على وفق علمه ، فيكون صدقا ، فلو انتفى لانتفى العلم ملزومه ، وهو محال لما عرفت من وجوبه .
فإن قلت : قد وجدنا العالِمَ منّا بالشيء يخبر عنه بالكذب ؟
قلنا : كلامنا في الخبر النفسي ، لا في الألفاظ ، لاستحالة اتصاف الباري تعالى بها ، والعالم منا بالشيء يستحيل أن يخبر الجزء من قلبه ، الذي قام به العلم ، بخبر كذب على غير وفق علمه ، غايته أن يجد في نفسه تقديرَ الكذب لا الكذب .
وأيضا : لو اتصف الباري تعالى بالكذب ، ولا تكون صفته إلا قديمة ، لاستحال اتصافه بالصدق ، مع صحة اتصافه به ، لأجل وجوب العلم له تعالى ، ففيه استحالة ما علمت صحته .
وأما إن قلنا : إن دلالة المعجزة عادية بحسب القرائن ، فحيث حصل العلم الضروري عنها بصدق الآتي بها ، فإنه يستحيل أن يكون كاذبا ، وإلا لانقلب العلم الضروري جهلا ، ولم يُجْرِ سبحانه وتعالى عادَته من أول الدنيا إلى الآن إلا بعدم تمكين الكاذب من المعجزات ، وإذا خيل بسحر ونحوه ، أظهر الله فضيحته عن قرب ، فلله الحمد على معاملته في ذلك ونحوه ، بمحض الفضل والكرم .
ويجوز أن تظهر المعجزة على يد الكاذب لو انخرقت العادة ، ولا يحصل حينئذ بها عِلمُ صدقِهِ ، وإلا لكان الجهل علما ، وتجويز خرق العادة عند حصول العلم بالصدق في حق المُحِقّ لا يقدح في العلم ، إذ لا يلزم من جواز الشيء وقوعه ، ألا ترى أنا نجوِّز استمرارَ عدمِ العالم ، مع علمنا ضرورةً بوجوده ، إذ معنى الجواز أنه لو قدر واقعا لم يلزم منه محال لذاته ، لا أنه محتمل الوقوع .
فصل ( عصمة الأنبياء )
وإذا علم صدق الرسل ، عليهم الصلاة والسلام ، لدلالة المعجزة ، وجب تصديقهم في كل ما أتوا به عن الله تعالى ، ويستحيل عليهم الكذب عقلا ، والمعاصي شرعا ، لأنا مأمورون بالاقتداء بهم ، فلو جازت عليهم المعصية ، لكنا مأمورين بها ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ) وبهذا تعرف عدمَ وقوع المكروه منهم ، بل والمباح على الوجه الذي يقع من غيرهم ، وبالله تعالى التوفيق .
فصل ( إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم )
ونبينا ومولانا محمد ، صلى الله عليه وسلم ، قد علم ضرورةً ادعاؤه الرسالة ، وتحدى بمعجزات لا يحاط بها ، وأفضلها القرآن العظيم ، الذي لم تزل تقرع أسماعَ البلغاءِ بتضليل كل دين غير الإسلام آياتُه ، وتحرك لطلب المعارضة ، على سبيل التعجيز ، حميةَ اللسن المتوقدي الفطنة ، الأقوياء العارضة ، نظما ونثرًا ، الخائضين في كل فن من فنون البلاغة طولا وعرضا ، بحيث لا تغلب عن معارضتهم أمنع كلمة ، وإن لم يُعَرَّض فيها بعجزهم ، فكيف وهم يسمعون في تعجيزهم صريحَ قوله تعالى : ( فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) ثم تَنَزَّل معهم فقال : ( فأتوا بسورة من مثله ) ثم صرح بعجز الجميع ، جنِّهم وإنسهم ، مفترقين أو مجتمعين فقال : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ومع ذلك لم تتحرك أنَفَتُهُم ، وهم المجبولون عليها ، ومن عادتهم أنهم لا يتمالكون معها ضبطَ أنفسهم عند ورود أدنى معارض يقدح في مناصبهم ، وإن كان في ذلك حتفُ أنفهم ، فكيف بما هو من نوع البلاغة التي هي كلامهم ، وتدب فيهم دبيبا ، حتى إنهم في كل واد يهيمون .
لكن القوم أخرسهم ، أنهم أحسوا أن الأمر إلهي ، لا تمكن مقاومته ، إما لأنه ليس في طوقهم ، وهو الأصح ، أو للصرفة ، وهما قولان .
ومن لم يستح منهم ، وانتدب لمقاومة هذا الأمر الإلهي ، كمسيلمة ، افتضح وأتى بمَخْرَقَةٍ يتضاحك منها إلى قيام الساعة .
ولو أنهم نُقِل لهم القرآن نَقْلَ غيره من الكلام ، نقل آحاد ، لأمكن الاعتذار عنهم بعدم الوصول ، كلاّ ، بل امتلأت بِحَمَلَتِه وصُحُفه وإشادة أمره الأرضُ كلُّها ، سهلها وجبلها ، بدوها وحضرها ، برها وبحرها ، مؤمنها وكافرها ، جنها وإنسها ، وتطاولت أزمنته على تلك الصفة قريبا من تسعمائة سنة ، أفيستريب عاقل بعد هذا في كونه من عند الله جل وعلا ، صدق به نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ .
هذا ، مع ما فيه من الإخبار ، قبل الوقوع ، بالغيوب المطابِقة ، ومحاسن علوم الشريعة المشتملة على ما لا يقدِر البشر على ضبطه من المصالح الدنيوية والأخروية ، وتحرير الأدلة ، والرد على المخالفين بالبراهين القطعية ، وسرد قصص الماضين ، وتزكية النفس بمواعظ يغرق في أدنى بحارها جميعُ وعظ الواعظين ، هذا كله على يد نبي أمي ، لم يخط قطُّ كتابا ، ولا حصلت له مخالطة لذوي علم ما يمكن بها تحصيل أدنى شيء من ذلك ، عَلِمَ ذلك كله بالضرورة : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون ) .
ثم هذا إلى ما له من المعجزات التي لا تحصى ، ثم إلى ما جبلت عليه ذاتُه الكريمة من الكمالات التي كادت أن تُفْصِح ، بل أفصحت ، قبل مبعثه برسالته ، خلقا وخلقا ، ثم مع ذلك كله ، أكد الله تعالى صدقَه بذكره باسمه وبجميع وصفه في الكتب الماضية ، قال تعالى : ( الذين يتبعون النبي الرسول الأمي .. الآية ) وأطلق ألسنة الأحبار ، قريبا من مبعثه ، بجميع ذلك ، حتى أنه سبحانه بفضله مما أكد به زوال اللبس عن نبوته ، أنْ منع العربَ قبله من التسمي باسمه الخاص به ، إلا أناسا قليلين تسموا قريبا من مولده باسمه ، رجاء حصول النبوة لهم ، لما سمعوا من الأحبار ، ثم من عظيم فضل الله تعالى ، في إزالة اللبس ، أنه لم يطلق لسانَ أحد من أولئك الذين تسموا باسمه ، بدعوى النبوة .
فصل ( السمعيات )
وإذا وفقت لعلم هذا كله ، حصل لك العلمُ ضرورة بصدق رسالة نبينا ومولانا محمد ، صلى الله عليه وسلم ، فوجب الإيمان به في كل ما جاء به عن الله سبحانه ، جملة وتفصيلا ، كالحشر والنشر لعين هذا البدن ، لا لمثله إجماعا ، وفي كونه عن تفريقٍ أو عدمٍ محض ، تردد ، باعتبار ما دل عليه الشرع ، أما الجواز العقلي فيهما فاتفاق .
وفي إعادة الأعراض بأعيانها طريقتان ، الأولى : تعاد بأعيانها باتفاق ، والثانية : قولان ، والصحيح منهما إعادتها بأعيانها ، وفي إعادة عين الوقت قولان ، وكالصراط وكالميزان ، وفي كون الموزون صحف الأعمال ، أو أجساما تخلق أمثلة لها ، تردد ، والجنة والنار وعذاب القبر وسؤاله .
ولا يقدح فيه مشاهدتُنا للميت على نحو ما وضع في قبره ، لأن في الموت وما بعده خوارق عادات أخبر بها الشرع ، وهي جائزة ، فوجب الإيمان بها على ظاهرها .
وأما ما استحال ظاهره نحو : ( على العرش استوى ) فإنا نصرفه عن ظاهره اتفاقا ، ثم إن كان له تأويل واحد ، تعين الحملُ عليه ، وإلا وجب التفويض مع التنزيه ، وهو مذهب الأقدمين ، خلافا لإمام الحرمين.
فصل ( الشفاعة والحوض وتطاير الصحف )
ومما جاء به ، صلى الله عليه وسلم ، ويجب الإيمان به ، نفوذ الوعيد في طائفة من عصاة أمته ، ثم يخرجون بشفاعته ، صلى الله عليه وسلم .
والحوضُ ، وهل هو قبل الصراط ، أو بعده ، أو هما حوضان أحدهما قبل الصراط والآخر بعده ، وهو الصحيح ، أقوال .
وتطاير الصحف ، إلى غير ذلك مما علم من الدين ضرورةً ، وعلمه مفصل في الكتاب والسنة ، وكتب علماء الأمة .
واعلم أن أصول الأحكام التي منها يتلقى : الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة ، وقياس الأئمة ، واتباع السلف الصالح ، واقتفاء آثارهم نجاةٌ لمن تمسك به .
وأفضل الناس بعد نبينا ومولانا محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أبو بكر ، ثم عمر ، ومختار مالك الوقفُ فيما بين عثمان وعلي ، رضي الله عنهما وعمن قبلهما ، والصحابة ، رضي الله عنهم ، كلهم أئمة عدول ، بأيهم اقتديتم اهتديتم ، نفعنا الله تعالى بحبهم ، وأماتنا على سنتهم ، وحشرنا في زمرتهم ، آمين يارب العالمين .
فهذه عقيدة أهل التوحيد ، المخرجةُ - بفضل الله - من ظلمات الجهل والتقليد ، المرغمة - بعون الله - أنفَ كل مبتدع عنيد ، نسأله سبحانه أن ينفع بها بفضله ، ويشرح بها صدر كل من يسعى في تحصيلها بِطَوْلِه ، وصلِّ اللهم على سيدنا ومولانا محمد ، عدد ما ذكرك وذكره الذاكرون ، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون ، ورضي الله تعالى عن أهله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
تمت العقيدة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه .